سورة النساء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} هما الزاني والزانيةُ تغليباً، قال السدي أُريد بهما البِكْران منهما كما ينبىء عنه كونُ عقوبتهِما أخفَّ من الحبس المخلّد وبذلك يندفع التكرارُ إلا أنه يبقى حكمُ الزاني المحصَنِ مبهماً لاختصاص العقوبةِ الأولى بالمحصنات، وعدمِ ظُهورِ إلحاقهِ بأحد الحكمين دلالةٌ لخفاء الشِرْكة في المناط {فَئَاذُوهُمَا} أي بالتوبيخ والتقريعِ، وقيل بالضرب بالنعال أيضاً والظاهرُ أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذكر آنفاً {فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبيخِ كما ينبىء عنه الفاء {وَأَصْلَحَا} أي أعمالهما {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بقطع الأذيةِ والتوبيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ. وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما، ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة، وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهم. قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على ما مر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما روي أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: «خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد». وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ الطلقاءِ الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ، وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البيوت والتعرُّضِ للرجال. ولا يخفى أنه مما لا يساعده النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وعزاه إلى مجاهد: إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الأولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورةَ للمصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً} مبالغاً في قبول التوبةِ {رَّحِيماً} واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض.
{إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن قبولَ التوبةِ من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبىء عنه وصفُه تعالى بكونه تواباً رحيماً بل هو مقيدٌ بما سينطِق به النصُّ الكريمُ، فقولُه تعالى التوبةُ مبتدأٌ وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء} خبرُه، وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ من الاستقرار، فإن تقديمَ الجارِّ والمجرورِ على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلق به الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً أو حرفَ جر كما سبق في تفسير قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وأيًّا ما كان فمعنى كونِ التوبةِ عليه سبحانه صدورُ القَبولِ عنه تعالى، وكلمةُ على للدِلالة على التحقق ألبتةَ بحكم جري العادةِ وسبْقِ الوعدِ حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، وهذا مُراد مَنْ قال: كلمةُ على بمعنى مِنْ وقيل هي بمعنى عند، وعن الحسن يعني التوبةَ التي يقبلُها اللَّهُ تعالى وقيل هي التوبةُ التي أوجب اللَّهُ تعالى على نفسه بفضله قبولَها، وهذا يشير إلى أن قوله تعالى: {عَلَى الله} صفةٌ للتوبة بتقديرِ مُتعلَّقِه معرفةً على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أي إنما التوبةُ الكائنةُ على الله، والمرادُ بالسوء المعصيةُ صغيرةً كانت أو كبيرة، وقيل الخبرُ على الله وقوله تعالى للذين متعلقٌ بما تعلق به الخبرُ أو بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكنِّ في مُتعلَّق الخبر، وليس فيه ما في الوجه الأولِ من تقديم الحال على العامل المعنويِّ إلا أن الذي يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ هو الأولُ لما أن ما قبله من وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً إنما يقتضي بيانَ اختصاصِ قبولِ التوبةِ منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكونُ بجعل قولهِ تعالى للذين إلخ خبراً، ألا ترى إلى قوله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التوبة الذين يَعْمَلُونَ السيئات} إلخ فإنه ناطقٌ بما قلنا كأنه قيل إنما التوبةُ لهؤلاء لا لهؤلاء {بِجَهَالَةٍ} متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ متلبّسين بها أي جاهلين سفهاءَ، أو بيعملون على أن الباءَ سببيةٌ أي يعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ، وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة: اجتمع أصحابُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فرأوْا أن كلَّ شيء عصى به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ. وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله {بجهالة} اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموتِ كما ينبىء عنه ما سيأتي من قوله تعالى: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} إلخ فإنه صريح في أن وقتَ الاحتضارِ هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ما وراءَه في حيِّز القَبول. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ.
وعن إبراهيمَ النَخَعيِّ: ما لم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس، وروى أبو أيوبَ عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن اللَّهَ تعالى يقبل توبةَ العبدِ ما لم يُغرغِرْ» وعن عطاءٍ لو قبل موته بفُواق ناقة، وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده، فقال تعالى:
«وعزتي لا أُغلق عليه بابَ التوبةِ ما لم يُغرغِرْ» ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سُمِّي ما بين وجودِ المعصيةِ وبين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاب هذا الزمانِ فهو تائب {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذكر، وما فيه من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ، والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} وما فيه من تكرير الإسنادِ لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببيتها للقَبول {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} مبالِغاً في العلم والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلَها، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ، فإن الألوهية أصلٌ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ.


{وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريحٌ بما فُهم من قصر القَبولِ على توبة من تاب من قريب، وزيادةُ تعيينٍ له ببيان أن توبةَ مَنْ عداهم بمنزلة العدمِ، وجمعُ السيئاتِ باعتبار تكررِ وقوعِها في الزمان المديدِ لا لأن المرادَ بها جميعُ أنواعِها وبما مرّ من السوء نوعٌ منها {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان} حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ للذين يعملون السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ، وذكرُ الآن لمزيد تعيينِ الوقتِ، وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغةً في بيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر، والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم، وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين}، وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب، ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ، ففيه مبالغةٌ أخرى {أولئك} إشارةٌ إلى الفريقين، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء، وهو مبتدأٌ خبرُه {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي هيأنا لهم {عَذَاباً أَلِيماً} تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحُكمِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي.
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} كان الرَّجلُ إذا مات قريبُه يُلْقي ثوبَه على امرأته أو على خِبائها ويقول أَرِثُ امرأته كما أرث مالَه فيصير بذلك أحقَّ بها من كل أحدٍ ثم إن شاء تزوّجها بلا صَداقٍ غيرَ الصَّداقِ الأولِ وإن شاء زوَّجَها غيرَه وأخذ صَداقَها ولم يُعْطِها منه شيئاً وإن شاء عضَلها لتفتديَ نفسها بما ورِثَتْ من زوجها، وإن ذهبت المرأةُ إلى أهلها قبل إلقاءِ الثوبِ فهي أحقُّ بنفسها فنُهوا عن ذلك، وقيل لهم لا يحِلُّ لكم أن تأخُذوهن بطريق الإرثِ على زعمكم كما تُحازُ المواريثُ وهن كارهاتٌ لذلك أو مُكْرهاتٌ عليه، وقيل كانوا يُمسِكونهن حتى يَمُتْن ويرِثوا منهن فقيل لهم لا يحل لكم ذلك وهن غيرُ راضياتٍ بإمساككم، وقرئ {لا تحِلُّ} بالتاء الفوقيةِ على أنّ {أنْ ترثوا} بمعنى الوراثة، وقرئ {كُرْهاً} بضم الكاف وهي لغة كالضَّعْف والضُّعف، وكان الرجلُ إذا تزوج امرأةً ولم تكن من حاجته حَبَسها مع سوء العِشرةِ والقهرِ وضيَّقَ عليها لتفتديَ نفسَها منه بمالها وتختلِعَ فقيل لهم {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} عطفاً على ترِثوا و(لا) لتأكيد النفْي، والخطابُ للأزواج، والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن، وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً، وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن، لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} على صيغة الفاعلِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن، وقرئ على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بيِّنةِ القُبحِ: من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ، ويعضُده قراءة أُبي إلا أن يُفْحِشْن عليكم، وقيل الفاحشة الزنا، وهو استثناءٌ من أعم الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أو لعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخُلْع.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} خطابٌ للذين يُسيئون العِشرةَ معهن، والمعروفُ ما لا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ، والمرادُ هاهنا النَّصَفَةُ في المبيت والنفقةُ والإجمالُ في القول ونحو ذلك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه، كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه، وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبرِ، أي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً، فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير، وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم، وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلهية جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ، وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لا يخفى. وقرئ {ويجعلُ} مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، والجملةُ حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشيءُ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً، وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ، وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبيان فخامتِه الوصفيةِ والمرادُ بها هاهنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة.


{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} أي تزوُّجَ امرأةٍ ترغبون فيها {مَّكَانَ زَوْجٍ} ترغبون عنها بأن تُطلقوها {وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنسُ، والجملةُ حاليةٌ بإضمار قد لا معطوفةٌ على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها {قِنْطَاراً} أي مالاً كثيراً {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من ذلك القنطارِ {شَيْئاً} يسيراً فضلاً عن الكثير {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه، والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ، أي أتأخذونه باهتين وآثمين، أو للبهتان والإثم، فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك، والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه، وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فُسِّر هاهنا بالظلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8